ثورة الأفكار

الثلاثاء، يوليو ٢٥، ٢٠٠٦

بلطجية الفكر

بلطجية الفكر
احترس....تسلل إلينا عقل

26/7/2006
كنت أتابع تفاعل الأحداث السياسية في نشرة الأخبار، رأيت بعض "البلطجية" يتصدون لفض اعتصام، حيث يفضل بعض لاعبي السياسة استخدام القوة لقمع منافسيهم. وفي نفس التوقيت كنت أتصفح إحدى منتديات الإنترنت، وجدت مجموعة تسب مخالفيها، وأخرى تدعي احتكارها الصواب... التفت إلى التلفاز، فخُيِّل إليّ أن الصورة مكررة، وألوانها متقاربة، فعلى التلفاز "بلطجية السياسة" يريقون الدماء الحمراء، وعلى الإنترنت "بلطجية الفكر" يكتبون باللون الأحمر..
وفي تقديري أن "ثقافة البلطجة" إفراز طبيعي لنمط تفكير يطغى في مجتمع من المجتمعات، حين لا توجد سوى وسيلة واحدة للحوار... أن تسمعني.. وهذا النمط يكرسه الأب في بيته، والمدرس في فصله، والمدير في مؤسسته... الخ، لذلك نجد بلطجية الفكر في كل مكان، في المؤسسات السياسية والاجتماعية والثقافية ..الخ، ويستخدمون أبشع الأسلحة المحرمة إنسانياً، ليغتالوا العقول، تارة برصاصة تتناول شخص طارح الفكرة ومكانته ومدى جدارته بالحديث، وأحياناً تخترق الرصاصة قلبه مفتشة عن نواياه، وحينها تطغى مناقشة هوية الأشخاص على تمحيص الأفكار، وتارة يحمل بلطجي الفكر في نفسه بقايا إنسان، فيكتفي بدبوس يشك به طارح الفكرة قبل أن يستكمل طرحها قائلاً له: "ستبحث المستويات العليا هذه الفكرة...والآن..لننتقل إلى النقطة التالية"، أو آخر يتميز بالرقة فيهمس في أذن من بجواره: "إنه يفكر كثيراً...سيتعبنا".. وأحياناً تستعد المؤسسات بكتيبة الردع الفكري للوقاية ممن أطلقت عليهم "مشاغبو الفكر"، فتسأل قبل أن تضم فرداً جديداً إلى فريقها: "هل يفكر كثيراً؟؟"..

أما كبار البلطجية فلا يكترثون بالأسلحة السابقة؛ بل يطلقون قذائف فتاكة من عيونهم، تتجسد في نظرات ازدراء أو توعد أو استنكار، لتقتل فكرة مطروحة قبل تمحيصها، بعد أن تكون شظايا القذائف أصابت طارحها بالشلل العقلي.


وهناك العرافون، الذين يعلمون شيئاً من الغيب، ويقرأون الفنجان، ترى أحدهم يقول لمحدثه قبل أن يشرح فكرته ويوضحها: "لا تكمل ..أفهمك...أعرف ما الذي ستقوله"..
ووأد الأفكار لا يقتصر على شريحة القيادة، فقد لاحظت وجود أفراد في بعض المؤسسات - ليسوا في مركز القيادة - ويروجون لنفس الأسلوب، خلتهم في بداية الأمر "بلطجية تحت التمرين"، لكنني وجدتهم يمارسون الإجهاض الفكري بجدية، ويتطوعون بالرد نيابة عن مديريهم بنفس الأسلوب، حينها علمت أنها ثقافة تُوَرَّث، وعبارات واحدة تردد لإجهاض جنين الفكرة..مثل: "هل جربها أحد من قبل؟؟"، "دعنا نعمل بالطريقة التي نعرفها"، "لو كانت صالحة لنفذتها الإدارة من فترة"، "لدينا إدارة واعية.. ركز فقط في إنهاء عملك"، "هل تعتقد أنك أعلم من الإدارة بهذه النقطة؟؟!!".

وانتهاكات بلطجية الفكر لحرمة العقل لا تقل خطورة عن جرائم بلطجية السياسة، بل تفوقها أحياناً، فالرأي العام يستنكر فعل بلطجية السياسة، أما بلطجية الفكر فيجدون لكلامهم رواجاً خاصة عندما تكون ثقافتهم هي السائدة، وبلطجية السياسة يُستخدمون من قبل بعض النخب السياسية، وربما يتبرأ النخب منهم بعد ذلك، أما بلطجية الفكر فقد يكونون في قمة الهرم في مؤسساتهم، ويمثلون نماذج يُحتذى بها، وهم أنفسهم الذين يمارسون قمع الأفكار دون وسيط، وعادة ما تكون كلمتهم مسموعة، وخطب ودهم مطلوب، لذلك يسكت عنهم الرأي العام داخل مؤسساتهم، أي أن البلطجة هنا بلطجة نخب.
والمؤسسات بصفة عامة لا تحارب كل الأفكار، فأي فكرة جديدة ترسخ الوضع القائم ستحظى بالتكريم، أما الأفكار التي يحكم عليها بإلإعدام، فهي التي تتناول مسار المؤسسة من أساسه، وجدوى وجودها، واستراتيجيات تحركها، ومدى إنجازها، ومعايير وآليات تولي القيادة.
إن أي مجتمع يصير فيه التفكير جريمة فهو على خطر، وأي وسط تُطارَد فيه الفكرة سيفتقد حتماً مقومات الحياة، فالأفكار أكسوجين التنفس الذي ينعش رئة أي مجتمع ليكون قادراً على التطور، وتموت الأمم حضارياً إذا أصيبت بأزمة التعامل مع العقول، واعتبرتها عدواً.
وقد انتبهت بعض المؤسسات في عالمنا العربي إلى خطورة القطيعة مع العقل، وقررت أن تبدأ المصالحة معه، واستبدلت رعاة الفكر ببلطجية الفكر، مدركة أنها لن تتطور إلا إذا سادت فيها ثقافة احترام الإنسان، وتقدير عقله، وعلمت أنه رأس مالها فترعاه وتستثمر فيه وتشجعه على أن يدعمها، لا أن تعتقل ملكاته، ورأت فيه مصدر تميزها، لا تهديد وجودها واستقرارها.
اختارت كثير من المؤسسات لصفارات الإنذار صوتاً مدوياً .. "احترس....تسلل إلينا عقل" ...وفي ناحية أخرى نرى مؤسسات واعدة تسعى لتقديم النموذج، مؤمنة أن أمتنا ستبرع وتنافس في السباق الحضاري يوم أن ترن صفارات الإنذار في مؤسساتها.. "احترس....سيتفلت عقل".
--------------------------------
نشرت في الجزيرة توك