ثورة الأفكار

الاثنين، فبراير ١٩، ٢٠٠٧

استراتيجية التحليق

استراتيجيــة التحلـــيق

سنصنع صاروخاً ثم نفككه
5/2/2007
عندما نسافر إلى بلد ما فإننا نستقل طائرة، وبوصولنا إلى البلد الذي نريد نترك الطائرة ونستقل السيارة، دون أن نبكي على فراق الطائرة وعدم استصحابها معنا في السيارة.
وعندما يذهب شخص إلى مكان ما عبر وسيلتين من وسائل المواصلات، كأن يتنقل عبر سيارة أجرة ثم ترام؛ فإنه لا يعير الوسيلة الأولى اهتماماً إذا ما أنهت مهمتها، ولا يشغل باله إلى أين ذهبت، أو من استقلها بعده، أو هل أصابها العطب أم لا تزال تعمل.
إن الوعي بوسائل المواصلات التي تقودنا إلى المستقبل أمر في غاية الأهمية، فرحلة المستقبل تتطلب قطع مراحل بوسائل شتى، تلك الوسائل التي نطلق عليها "أدوات الفعل"، ويعد الانتباه إلى فنون إدارة أدوات الفعل من صميم أولويات المتصدين للتغيير في أي مجال.
فربما نؤسس مؤسسة لهدف، ثم نغلقها بعد أن تؤدي دورها، لنؤسس أخرى تقوم بمهمة مختلفة. وقد تؤسَّس حركات وجمعيات وأحزاب لتحقيق نقلة في مجتمع في مرحلة ما، لكنها لا تصلح لأن تؤدي دور المرحلة التالية، ويكون استصحابها في تلك المرحلة كاستصحاب الطائرة في السيارة، وقد يكون التحالف مع جهة ما أمراً ضرورياً في فترة، وفي فترة أخرى يجب فض هذا التحالف، إن بناء المؤسسات وإقامة التحالفات كلها أدوات فعل يمكن أن تصدأ بعد فترة، وأدوية للمجتمعات قد تقتل إذا انتهت صلاحيتها.
كم أسعد برؤية الرشاقة تتجلى في تفكير القادة، وهم يناورون الواقع، ويعجزونه بأدواتهم الخلاقة، ويتنقلون بينها بشكل مذهل، ولا يرون بأساً من كسر أداة استعملوها من قبل، بعد أن صارت ضارة أو معيقة، إنهم لا يتعاطفون مع أدواتهم، بل يتغزلون في أحلامهم، ولا يبكون وسيلة أدت دورها؛ بل يتخوفون من أن يخذلهم وزنهم عن الإرتقاء، فيتخذون من استراتيجية التحليق معراجاً نحو المستقبل، أليس الصاروخ ينطلق من الأرض بكامل أجزائه بقوة دافعة، ويتخلص تدريجياً من جزء من هيكله مع كل مرحلة حتى يخف وزنه وتزداد سرعته ليتمكن من اقتحام الفضاء؟؟!! فكل جزء من الهيكل له وظيفة في مرحلة ما، لكنه في مرحلة أخرى يصبح عبئاً وقَيْداً، لقد طور العلماء هذه الآلية وأبدعوا الصاروخ متعدد المراحل من أجل الرحلات الطويلة*، وبهم يتشبه القادة فيجيدون لغة المستقبل، ويعلمون الجيل فن إطلاق الصواريخ، ويعيدون تعريف الهدم والبناء.
يظن البعض أن البناء يعني بالضرورة استخدام نفس الأداة، فتتردد مقولة "لم لا نبني على ما سبق!!"، وأرى أن جوهر البناء يعني البناء على نتاج استخدام هذه الأداة من نجاحات أو إخفاقات، وربما تطلب البناء استمرار استخدامها أو تطويرها أو تدميرها. فهدم بعض الأدوات ربما يكون هو سبيل البناء، والبناء على الأدوات المتهالكة هو عين الهدم. فتأسيس ناطحة سحاب يستوجب إزالة البيت المتواضع، أما تأسيسها فوق سطحه فيعني كارثة محققة.
-----------------------------
*كل مرحلة في الصاروخ متعدد المراحل لها محرك صاروخي ووقود دافع. وقد طوَّره المهندسون من أجل الرحلات الطويلة خلال الغلاف الجوي وإلى الفضاء. نظراً للحاجة إلى صواريخ تستطيع أن تصل إلى سرعات أكبر من سرعات الصواريخ ذات المرحلة الواحدة. ويصل الصاروخ متعدد المراحل إلى سرعات أعلى نتيجة نقصان وزنه بإسقاط مراحل (أجزاء) تم استعمال وقودها. وتبلغ سرعة الصاروخ ذي الثلاث مراحل تقريبًا ثلاثة أضعاف سرعة الصاروخ ذي المرحلة الواحدة.

الجمعة، ديسمبر ٠٨، ٢٠٠٦

إلى الواقفين في الطابور

إلى الواقفين في الطابور

ثمة خيارات أخرى


بينما أنا ذاهب لأشتري تذكرة ركوب مترو الأنفاق؛ إذ بي أفاجأ بطابور طويل، وكلما أتى فرد لشراء التذاكر ينظر مندهشاً لطوله ثم يقف تلقائياً فيه، بالرغم من وجود شباكين آخرين لشراء التذاكر لا يقف أمامهما أحد، كأن الجميع يقول في نفسه: "بالتأكيد لا تصرف تذاكر من هناك... إذا كانت تصرف لما كان كل هؤلاء مصطفين بهذه الطريقة في طابور واحد".
ذهبت إلى أحد الشبابيك الخاوية من البشر، فوجدت الموظف يبيعني التذكرة، فإذا بالسيل المنهمر يخرج من الطابور الطويل - لما رأى التذكرة في يدي - ليأتي على الشباك الذي وقفت عنده. فقد أدركوا أن البيع متاح في الشبابيك الأخرى.
ولعل الناس تحب الأماكن التي اكتشفت من قبل، وتحب أن تأنس بالكم البشري، على اعتبار استحالة أن تكون كل هذه الجموع على خطأ، وحتى إن كانوا مخطئين، فلا بأس من قبول وحدة المصير.
أما قادة التحولات فيتميزون بأنهم لا يقفون في ساحة مزدحمة، لأنهم لن يضيفوا عليها إلا أشخاصاً آخرين يأنسون بالزحام، لذلك نجدهم يبحثون عن الفرص الكامنة في الطرق غير المكتشفة، ويرون أن من سار خلف الناس لن يصل إلى أبعد مما وصل إليه الناس، فيأنسون بالوحدة، ويتصفون بالتفرد، وهم الذين يصنعون النقلات النوعية، خاصة عندما يحررون عقول الناس، ويقنعونهم أن هناك طرقاً أخرى يمكن السير فيها.
أيقنت أن الكثير من معطلات تقدمنا ليست إلا نتاج عقولنا، وأنماط تفكيرنا، ورغبتنا في الوقوف في الأماكن المزدحمة، والتهيب من اكتشاف السبل الجديدة.
إن المنطق يقول أنك إما أن تظل أسير تجارب الماضي، وتابعاً لمحاولة من سبقك، وتقف بدورك في طابور طويل، أو تجرب اكتشاف سبيل جديد ربما يقود إلى حلول، فإن أخفقت في اكتشاف السبيل، فالطابور موجود، وهو خيار قائم، وربما يصل الواقفون فيه إلى مبتغاهم ببطء، وإن نجحت ساهمت في إيجاد مسار جديد يسهل الحركة ويختصر الزمن.
إن المجتمعات التي تسعى للنهوض تبذل جهدها في تلمس الطرق، ويبدع قادتها في إيجاد البدائل، وهم المعنيون بأن يحلوا أزمة الحركة البطيئة في عصر السرعة، فتتسارع وتتوالى المبادرات التي ربما قادت إلى حل، فنرى مجتمعات حية تأنف الاستسلام وتعشق المحاولة، أما ما يدهش فعلاً في مجتمعات أخرى، مراقبة قادتها للطابور الطويل، بل وتنظيمه، ثم معاقبة من تسول له نفسه الخروج منه لاكتشاف المستقبل والبحث عن مخرج.

الجمعة، ديسمبر ٠١، ٢٠٠٦

الطريــق طويـــــــــــــل

الطريــق طويـــــــــــــل

طريق طويل... أم نفس قصير؟؟!!


عندما كنت أسبح في طفولتي، كان الإعياء يصيبني قبل أن أصل إلى نهاية حمام السباحة، وأشعر أن المسافة التي أقطعها طويــــــــلة، لكنني عندما كبرت صرت أقطع المسافة بسهولة ذهاباً وإياباً.وعندما كنا نلعب في فناء المدرسة، كنا نقيم مسابقات العدو بشكل مستمر، وكم اختبأنا وراء الأشجار، ثم كبرت وزرت مدرستي، فتعجبت من صغر فنائها، وضآلة أشجارها، وخُيل إلي أنه من المستحيل أن نكون عدونا ولعبنا فيها واختبأنا وراء تلك الأشجار يوماً من الأيام.
وعندما نرى أمة تحاول أن تقطع أشواطاً على طريق تقدمها، ثم ينهكها التعب، ويتسلل إليها الإحباط متستراً بمقولة "الطريق طويــــــل.. وحسبنا أن نقطع فيه خطوة". فإن هذه القضية تحتاج إلى وقفة، فهل فعلاً الطريق طويــل؟!إذا كان هناك طريق طوله 20 كيلو متراًٍ، هل يعتبر طويلاً أم قصيراً؟؟!! إذا كنت تقطعه بسيارة بسرعة مائة كيلو متر في الساعة فسيستغرق الوقت 12 دقيقة، أما إذا قطع سيراً على الأقدام فربما يستغرق ما يزيد على الساعتين، بالإضافة إلى الإجهاد. فكيف نحدد إذا كان الطريق طويلاً أم قصيراً؟؟ وهل الطول والقصر نسبي بحسب وسيلة العبور؟؟!!
أرى أننا نسير في طرق محددة المسافة، إلا أن عقولنا تبرر لنا أحياناً عدم المسير، فترينا إياها طويلة، فطريق التحول سلكته أمم في قرون مثل الفرنسيين قبل أن يطلقوا ثورتهم، وسلكته أمم أخرى في عقود مثل الصين رغم تشبث التحديات بها. وكلا الدولتين صنعتا نهضة، فأي الطريقين نسلك؟؟ طريق القرون أم طريق العقود؟؟وفي الوقت الذي نرى فيه أحزاباً ألمانية قديمة تحاول أن تقطع الطريق الطويــل، نجد هتلر[i] – رغم أنه نمساوي وليس ألمانياً -يلتحق بعدهم بنفس الطريق قادماً من النمسا، لكنه يصل قبلهم ليطبق برنامجه، بعد أن تمَلكه حلم ألمانيا القوية.
إننا إذا استوعبنا ذلك جيداً أدركنا أن الطول والقصر هو أمر نسبي، بحسب عقل الناظر، وحالته النفسية، فإذا سرنا في الطريق بعقلية ونفسية وطاقة الأطفال، فسنجد المسافة طويلة وأنفاسنا قصيرة، وستعيقنا بحار الأخطار العميقة عن التنفس وتغمرنا إلى أذننا، وستعجز أعيننا عن رؤية المشهد الواسع الممتد من كل زواياه، أما إذا سرنا في نفس الطريق بعقل استراتيجي، يستمد قوته من قوة العلم، وبرغبة حقيقية في قطع الطريق، ونفس طويل يهزأ بالمسافة، فحتماً سنراه قصيراً، ليس لأن المسافة قصرت، ولكن لأننا نعدو سريعاً، وإذا أطللنا على مشهد التحولات فسنرى الأوضاع مختلفة، ليس لأن تعقيد المشهد واتساع أبعاده تغير، وإنما لأننا صرنا أطول قامة وأحد بصراً فتمكننا من رؤيته بوضوح.إن ترديد مقولة "الطريق طويــــــــل" أشبه بمسكن أو مخدر يسبب مناعة ضد الفعل، خاصة إذا تم توريثها على اعتبارها مسلمة من مسلمات التحول، وأغنية تدندن بها الأجيال، وحكايات تغذى بها عقول الأطفال، فلا تتطور الأفكار لأن الطريق طويــــل، ولا تتغير الاستراتيجيات لأن الطريق طويـــل، ولا تُقدح الأذهان للبحث عن بدائل تعيننا على التسلل إلى المستقبل المنشود لأن الطريق طويــل، ويجب أن لا نتطلع إلى نصر أو نستعجله الآن، وبالطبع لأن الطريق طويـــل.
إن نهايات الطرق لا تزحف إلى السائرين ببطء، وإنما يعدو نحوها العداءون، الذين يوقنون أنهم في سباق، وأن الزمن لن ينتظرهم، فثمة متسابقون آخرون على الطريق.
أليس من العجيب أن العلماء الذين فكروا في الصعود إلى القمر لم يروا المسافة بعيدة؟! كان من الممكن أن يقولوا كيف نقطع هذا الطريق الطويــل بالسيارة أو الطائرة، لقد اخترعوا الآلة التي تقلهم إلى مبتغاهم، لأنهم قرروا في داخل أنفسهم أن الطريق يمكن قطعه، وأنهم حتماً سيصلون، واليوم صار الذهاب إلى القمر وإلقاء نظرات على المريخ هواية يمارسها رواد الفضاء المغمورون، لقد عُبد الطريق، لأن مجموعة تجرأت عليه، وأيقنت بإمكانية الفعل.
بعض الناس يتخيلون أن المشكلة في الطريق، وهؤلاء لن يرونه إلا طويـلاً، والبعض الآخر يدرك أن المشكلة في عقله ونمط تفكيره وحجم استعداداته، والطريقة التي اختارها للسير فيه، وهؤلاء وإن أخفقوا اليوم فغداً سيقطعونه، ويوماً ما سيراهم الآخرون يطئون بأقدامهم خط النهاية.

---------------------------

[i] تم استدعاء نموذج هتلر كمثال للإصرار والتحدي، وهذا لا يعني بالضرورة الاتفاق مع الأفكار والبرنامج والممارسات السياسية التي مارسها، لكن من المثير أن حامل الجنسية النمساوية يحلم أن يحكم ألمانيا، ثم يحكمها ويحصل على الجنسية الألمانية

الأربعاء، نوفمبر ٢٢، ٢٠٠٦

زلـــزال العقــــول

زلـــزال العقــــول

الزلزال قادم لا محالة

عندما ننظر إلى خارطة العالم، ونرى القارات مستقرة لتشكل جزيرة عالمية تحيط بها المياه من كل جانب، ندرك عظم الدور الذي تتطلبه التحولات الكبرى. فالأرض لم تكن مجزأة بهذا الشكل، ودار حوار وتفاوض مستمر بين اليابسة والماء، ويظل هذا الحوار قائماً ما بقيت التفاعلات قائمة بين مكونات وعناصر الكون.
ولولا الهزات والرجات والتصدعات لظلت الأرض كتلة واحدة، ولما رأينا مغازلة المياه لليابسة، وتوطنها كحاجز فاصل بين القارات لترسم لنا لوحة رائعة لمشهد القارات الست متربعة على عرش الماء.
وتمتلك الدول التي تعاني من زلازل متكررة مراصد للتبنؤ بحدوث الزلزال، لتحذر الناس أن "الزلزال قادم لا محالة".
وتحتاج التحولات الحضارية بدورها زلازل تعيد تشكيل وجه الإنسانية، لترسم عليه أرقى الألوان وأبهجها، وتمنحه قسمات الأمل والإصرار.
وحينما تزداد الضغوط على الأمم، وتتعاظم التحديات المفروضة عليها، يتنبؤ علماء الاجتماع بأن زلزال العقول حتمي الحدوث، وأنه قادم لا محالة، حيث يعاد تشكيل العقل بشكل جديد، ويتغير تعريف الممكن والمستحيل، وتراجع المسلمات وأنماط التفكير السابقة التي تولدت في ظلها هذه التحديات، هذا الزلزال هو الذي يجدد حيوية العقل، ويعيد فرز الأفكار، ويبدع المخرج من الأوضاع التي تبدو قاهرة.
ولابد للعقل من زلزال بين الحين والآخر، لأن استقرار الأفكار فيه فترة طويلة لا يدل بالضرورة على النضج؛ بل قد يعني الجمود على ما ألفه، لذلك يجب أن يرتج بين الحين والآخر رجات قوية يعيد من خلالها فرز أفكاره ومراجعة مسلماته، ولا عجب إن أبقى على بعض الأفكار التي يصلح بها العقل، وشذب البعض الآخر وطوره، واجتث مجموعة أخرى من الأفكار بلا رجعة، تلك الأفكار التي تعيق الحراك الجاد نحو التحول.
إنه زلزال حقيقي، يضمن حيوية العقل، ويبدو مؤكد الحدوث مع عجز نمط التفكير السابق عن إيجاد حلول وبدائل للتحديات، وتطلع الناس إلى مخرج.
وإذا تأملنا حياة المصلحين والمفكرين والقادة الذي أحدثوا تحولات تاريخية لوجدنا أنهم زلزلوا العقول، إما بالتعرض للمعتقدات السابقة بالنقد، أو مقاومة المسلمات الخاطئة مثل توهم أن الأرض مسطحة، أو تغيير أنماط التفكير والنظر إلى شكل المجتمع الأفضل، أو طرح أطروحات جديدة جذابة تخاطب أشواق الجماهير، أو القيام بمبادرات تؤكد القدرة على إحداث التحولات على الأرض. لقد اتخذوا من عقول الجماهير هدفاً، وصاغوا من القول والفعل أدوات لإحداث الرجات، إنهم مهندسو "تسونامي" العقول الجارف، الذي يغير قناعات الجماهير، لتنتقل من الشعور بالعجز إلى الإيمان بإمكانية الفعل، وتسرع إلى مغادرة مقعد المتفرج إلى مقعد الفاعل.
إننا إذا أردنا تغيير وجه خارطة الفعل السياسي والاجتماعي، فلا نبالغ إذ نقول، أنه لابد من زلزلة العقول.

الاثنين، نوفمبر ٠٦، ٢٠٠٦

نظارة القائد

نظارة القائد

نظارتك ستحدد مستقبلك

بدأت أبحث عنهم... جذبتني أشكالهم... كنت أرقبهم... شباباً وشيوخاً، نساء وفتيات، ولم ينج حتى الأطفال من قصف نظراتي.. تساءلت!! ترى ماذا يرون من خلفها؟؟!!... وهل كلهم يبصرون نفس الشيء بنفس الكيفية؟!! بل لماذا أصلاً يلبسونها؟!! البعض يلبس نظارات شمسية فيرى عالماً بني اللون يتجنب به سطوع شمس العالم الحقيقي، والبعض يستعمل نظارات تضبط له النظر مخافة أن يسقط أسير الحفر في الطرقات، وآخرون يكادون لا يبصرون بدونها فيرون واقعاً ضبابياً، كل هؤلاء اجتمعوا على شيء واحد، أنهم قرروا أن أعينهم المجردة بحاجة إلى أداة جديدة تعينهم على الرؤية.
فكرت أن أشتري نظارة فأعياني البحث ولم أجد ما أريد، مل البائع ونفد صبره، كنت أبحث عن نظارة أبصر من خلالها المستقبل، نظارة أرى من عدساتها الأمل حين يستغرق الناس في الألم، أبصر منها زمجرات التحدي والممانعة، حينما لا يبصر الناس إلا خربشات الآهات على عدساتهم، إنني أبحث عن نظارة استخدمها قادة التاريخ العظام، ومجددو العصور، فكانوا من خلالها يبيعون شعوبهم الأمل، كانوا يرون في كل مشهد فرصة لإثبات التحدي، فلم يروا في الفقر بؤساً؛ بل أبصروا فيه وقود الثورة، ولم يبحثوا عن مآسي الفقراء ليزيدوا إحباط الناس؛ بل نقبوا عن طليعة تمكنت من ترويض الفقر واستخدامه لتغيير الواقع وصرخوا في العالمين "بمثل هؤلاء فلتقتدوا". كانوا يبشرون قومهم، صناعتهم رؤية المستقبل وليس الترويج للواقع، فالواقع السيئ يعلمه الكل، ولا يحتاج إلى ندب أو نواح، لكن الفرص المنثورة في هذا الواقع تحتاج رؤية ثاقبة تستجمعها، وتتطلب نظارة مختلفة تحيط بها، إنني باختصار أريد نظارة نُقشت على عدستها الأولى كلمة "إمكانية"، وعلى عدستها الثانية كلمة "الفعل".. إنها نظارة تهتف بإمكانية الفعل.
أخذت أقلب النظارات فإذا بها من صناعة خصومنا، إنهم يبيعوننا نظرات البؤس والحرمان، ويكرسون لدينا معاني العجز واليأس، إننا نبصر ما يريده خصومنا، ولا نبصر ما نصنع به مستقبلنا، أدركت أن نظاراتنا ستحدد مستقبلنا، وتيقنت من حاجتنا إلى تصنيع نظارات محلي، ينطلق من مصانع القادة الثوار، ومن ورش المفكرين الأحرار، نظارات جديدة، تتلون بألوان المستقبل، فلا نرى إلا حركة وعزماً، ولا نبصر إلا فرصة ونصراً. هذه النظارات سيبيعها الكتاب والمفكرون والمدرسون والقادة والإعلاميون والفنانون وكل من هو معني باستنهاض الأمة. وسيفسرون من خلالها كل مشهد ظاهره بائس ليظهروا للناس الفرص الكامنة، فبين سيل الأمطار ترجل شاب ذكي ليبيع الناس المظلات، فأبصر في السيل فرصة، وعند اشتداد الحر تكسب بائعو المرطبات الذين يقتاتون من الحر ويعتبرونه موسم خير وبركة، وبين مطارق الأعداء على جسد أمتنا تجلت بطولات أمة لن تموت.
لن نعزف ألحان العذاب بل سنشدو بأغاني كسر القيود، لن نكتب عن الجراح بل سنغزل انتفاضة المجروح ونعرض للدنيا بسمته، لن نصور دمعة الطفل بل سنسلط الكاميرا على قبضته المشدودة الغاضبة.
إن لكل مشهد أكثر من زاوية للنظر، فعلينا أن نختار بين الزوايا، وأن نحدد مصيرنا باختيارنا، إما أن نكرس اليأس فنلجأ إلى تصوير الهواة الذي يلتقط صورة لظاهر المشهد؛ أو نستجلب اللقطات بحرفية من زوايا صعبة تنطق بالقدرة على الفعل. فالقائد مصور محترف بالدرجة الأولى، ويأبى لقطات الهواة التي يتمكن منها كل إنسان.
بعد أن خرجت من المحل، تصفحت جريدة في الطريق، وجدت أحد الكتاب يتحدث عن الأمة الغرقى والمنكوبة في مقال طويل، ويتوسل ويتسول من أجلها... فضحكت في نفسي .. وأشفقت على هؤلاء الذين يلبسون نظارات مكتوباً عليها.. "يا لهوي".
-------------
يا لهوي: تعبير في اللكنة المصرية عن قلة الحيلة والعجز

السبت، سبتمبر ٢٣، ٢٠٠٦

حرف الباء... وفن المناورة

حرف الباء ... وفن المناورة
إلى أي الحروف تنتمي؟؟
22/9/2006

بينما أنا أقرأ في إحدى الكتب، إذا بي أجدني أغيب عن عالم الكتاب، لأدخل عالم الأحرف التي صاغت كلماته، وجدتني أغوص في أعماقه، بدت الأحرفكمجموعة من الرسومات، نسيت الكتاب وموضوعه، لأجدني حائراً منبهراًبهذا العالم.. عالم الأحرف.
ففي عالم الأحرف تدور حوارات، وتحاك مؤامرات ومعارك وسجالات، وجدتالأحرف تتسابق فيما بينها، لتشكل الكلمات، فحروف "الفاء" و"القاف" و"الراء" قد تصنع "فقر" لكنها إذا أحسنت تشكيل نفسها تكون "رفق"، وجدت الفاعل والمفعول به، ورأيت حزناً مرسوماً على نقاط الكلمات التي قدرلها الكاتب أن يجعلها مفعولاً به.

وهناك الأحرف الصغيرة الرشيقة القادرة على المناورة، ورغم أنها قررت أن تعمل صغيرة منفردة دون الاندماج مع أحرف أخرى لتكون كلمة كبيرة؛ إلا أن لديها من القوة ما يجعلها قادرة على أن تَجُر ما بعدها، كما يفعل حرف "الباء" منفرداً، ليكسر أعتى الكلمات، أو كما يتحالف حرفي "الفاء" والياء" ليشكلا قوة "في" التي تسرع وتناوروتخترق سدود الكلمات برشاقة باحثة عن هدفها في كلمة كبيرة، فتختار موقعها قبلها مباشرة، لتكسرها بدورها فلا تبقي ولا تذر، ثم تجرها عائدةبها إلى الأحرف الخائفة.
رأيت كذلك حرف "اللام" يتألق ذكاءً، حين قررأن ينضم إلى مجموعة حروف العلة، ليفسر الأحداث، ويكشف علتها، فيوضح المبهم، ويجلي الحقائق، كذلك هالتني هذه الكلمات المستكينة، التي فضلت أن تكون تابعة، فيربطها ويعطفها على ما قبلها حرف "الواو"، فتتبع ما بعدها، إن كان مكسوراً كُسرت، وإن كان مرفوعاً رُفعت، إن حرف"الواو" يمسخ من يليه، وليس هذا جرمه، بل العتاب كل العتاب لمن ارتضى أن يكون مكانه بعد "الواو". ازددت إعجاباً ب"أو" التي تتيح الخيارات، وتعلمنا أنه لا يوجد خيار واحد، أو استراتيجية واحدة، فاستيعاب العقل ل "أو" يعني تحرره من أسر الحل الأوحد.
إن عالم الحروف يستحق النظر، فمن الأحرف تنسج الكلمات، وتصاغ الخطابات، ومن خلالها يعلن القادة قراراتهم المنطوقة أو المكتوبة، فبالحروف تشن الحروب، وبها توقف، فلا عجب أن تبدو في عالم علاقاتها مفردات الصراع.
وإن كان مقبولاً في دنيا الحروف أن يتواجد الفاعل والمفعول به، والجار والمجرور، وحرف العطف والمعطوف، ليتعايش كل هؤلاء كلوحة تشكيلية تنبض ببلاغة الكلمات وبيانها، فإن الحديث يختلف في دنيا الإنسان.
إن الحروف تعلمنا أن نكون في عالم الإنسان بين فاعلين أو مفعول بنا، أن نَجر أو نُجر، أن نحسن تشكيل أنفسنا، واستثمار مواردنا، أو أن نهدرها..
أن نكتشف دور المجموعات والمشاريع الصغيرة في القيام بأعمال نوعية - مثلما تفعل الحروف النوعية كالجر والعلة - أو أن نعيد إنتاج أشكال القرن الماضي في مشاريع متضخمة، قد لا يسعفها حجمها على السرعة والمرونة في المبادرة واتخاذ القرار.
وليست كل الحروف قابلة للعيش منفردة، لتمارس دورها دون أن تلتحم مع غيرها من الأحرف مكونة كلمة، فحرف ال"ثاء" لا يعمل منفرداً، والأبطال في الغالب قلة، والقادرون على التصدي منفردين صفوة، وتجسدهم تلك المجموعة من الحروف المتميزة التي تمتلك مهارت العمل النوعي.
أعجبتني حقاً تلك الحروف الصغيرة، وأسرتني دقتها ومهارتها، التي لولاها لاصطدمت الكلمات الكبيرة، ولتراشقت، إنها هي التي تنظم، وتفسر، وتُفصِّل،وتفصل بين الكلمات، وتُعاقِب بالجر والكسر أحياناً، وهي صغيرة ليسهل على الكاتب تذكرها، ويسرع في كتابتها قبل ارتطام الكلمات، ويتمكن من حشرها بين أضخم المفردات.
إن الحروف الصغيرة هي صمام الأمان الذي يحول دون اختلال الجمل ومعانيها، وأعتقد أن المشاريع الصغيرة بدورها صارت اليوم صمام أمان يثبت حيوية المجتمعات، وإمكانيتها وقدرتها على الفعل. يقولون أن السمك الكبير يأكل الصغير، وأقول بل الأسماك الصغيرة قادرة على اعتلاء ظهر الحوت
.
-------------------------
نشرت في الجزيرة توك

السبت، سبتمبر ٠٢، ٢٠٠٦

صراع الأحلام

صراع الأحلام

أنت تعيش حلم غيرك

3/9/2006





حلقت بنا الطائرة عالياً، وتنحت السحب جانباً كي نتجاوزها إلى ارتفاعات شاهقة.. كان يجاورني شخص يركب الطائرة لأول مرة.. تشكلت على قسمات وجهه علامات السعادة والتعجب.. قال لي: "كان حلمي ركوب الطائرة".. قلت: "هذا ليس صحيحاً... أنت تعيش حلم غيرك".
لقد تخيل عباس بن فرناس البشر يطيرون، وزار المستقبل ثم عاد ليخبر قومه أنه رأى الناس تطير، كان يبدو الأمر حينها جنوناً، لكننا اليوم نعيش حلم ذلك الحالم، إننا ونحن نركب الطائرة، لا نفعل أكثر من أننا نعيش حلم شخص آخر.




وسنكتشف – إذا تأملنا – أن معظم حياتنا لا تتجاوز تحقيق أحلام آخرين، فعندما تعتلي بسيارتك جسراً، أو تركب قطاراً يسير تحت الأرض، ستجد أنك تعيش أحلام من رأوا الناس يسيرون معلقين في الهواء، أو يختصرون الطرق تحت الأنفاق، لقد بذل أولئك الحالمون جهدهم حتى يقتحم الخيال بوابة الواقع، فطوعوا الواقع ليذعن للحلم.
وعندما تتقدم للعمل في شركة كبرى، فإنك في الواقع تحقق حلم صاحب هذه الشركة، الذي تخيل شركته ممتلئة بالموظفين النشطين، وأرادها قبلة المتميزين، فتعود لتفتخر أنك تعمل في شركة عظمى، وما دريت أنك تفتخر بحلم غيرك.
ونلحظ نفس الفكرة في عالم السياسة، فالشعوب المقهورة تعيش أحلام الديكتاتوريات، التي تخيلت يوماً ما سجود الشعوب لها، فحققت الشعوب المذعنة ذلك الحلم، ونالت الديكتاتوريات ما أملته في السيطرة، وسنجد بعض الدول الضعيفة تعيش حلم قوى الاستكبار، وتنفذ دور التابع، وهو الدور الذي حددته لها قوى الاستكبار في حلمها، حين اختارت الهيمنة حلماً.
وإذا افتقدت أمة ما القدرة على الحلم فستظل تعيش أحلام أمم أخرى، وهؤلاء الذين ينادون بالواقعية "وفن الممكن" على اعتباره فن الاستسلام للظروف؛ لم يدروا أن أحلامهم ليست خارج نطاق الممكن، فنحن الذين نحدد "الممكن" بتجربتنا، وهل كان من الممكن في عقولنا أن يسير شخص في الشارع يعلق قطعة معدنية في أذنه، ويكلم الآخرين، ويجري اتصالاته من أي مكان؟؟!!
والجنون هو الصفة الأساسية التي ينعت بها الحالمون، فالرسل وصفوا بها، وقتل علماء قالوا بكروية الأرض في وقت كان يعتقد أنها مسطحة، إن الحالمين هم زوار المستقبل، الذين يكسرون التصور الحاكم "البارادايم" في عصر ما، ليردموا الفجوة بين الممكن والمستحيل. مستعلين على قيود الواقع، مدركين أن حلول مشكلاته تأتي من زيارة المستقبل، وأن الضغوط لا ينبغي بحال من الأحوال أن تقيد العقل، أو تعتقل فيه ملكة التخيل، كانوا يتخيلون شكل المستقبل الجديد، ثم يعودون به إلى الواقع.
يمكن أن نجمل جوهر الصراع في الحياة بأنه صراع الأحلام، فصاحب الشركة الكبيرة يتأذى منك إن وجدك ستخرج من أسر حلمه لتؤسس شركتك وتبني حلمك المستقل، ورئيس الحزب سعيد برؤية أتباعه يدورون في فلك حلمه، ويخشى من خروج عضو بفكرة حزب جديد، يحمل حلماً جديداً، والديكتاتوريات وقوى الاستكبار تحتكر حق الحلم، وترد بقسوة من يحلم بعالم العدل والحرية، بل وتوهم العقول باستحالة الحلم.
إننا في دنيا الأحلام نجد البعض يحلم، ويوزع الأدوار على الآخرين في حلمه، والبعض الآخر يحاول الخروج من أسر دور فرض عليه في حلم غيره، وآخرين قتلت عندهم ملكة الحلم، واستسلموا للقيام بدور في حلم غيرهم، والبعض اختار أحلام الآخرين بوابة يطلق من خلالها حلمه..
ترى هل نحسن صناعة الأحلام أم سنظل نعيش أحلام الآخرين؟؟!! متى نحلم لأنفسنا؟؟!! متى ننهي احتكار الحلم؟؟!!
-------------------------------------------
نشرت في الجزيرة توك