ثورة الأفكار

الثلاثاء، أغسطس ٠١، ٢٠٠٦

الفيلم مش حقيقي

الفيلم مش حقيقي

فن البحث عن الحقيقة

1/8/2006
الجزيرة توك
كنا نتجاذب أطراف الحديث منتظرين الفيلم.. أنهَكَنا الحوار... لم تُوقِف حركة شفاهنا سوى موسيقى المقدمة، لتفتح بوابة تنقلنا إلى عالم السينما.. صمتت الألسنة.. البطل يجري... يرتطم بالأرض إثر حادث سيارة... يتناثر الدم من وجهه... تأملت وجوه أصدقائي... الألم يغزو العيون.. قاطعت صوت الصمت قائلاً: "لا داعي للحزن.. هذه محاليل حمراء وليست دماء ... الفيلم مش حقيقي"... انفجروا غضباً من مقولتي وتوعدوني... ثم بدأ التركيز من جديد.
في مشهد الفرح، تستعد العروس ليوم طالما حلمت به، وجدت فرحة في عيني طفلة زميلي الصغيرة التي تجلس بجواري، فهمست في أذنها: "لا تفرحي هكذا... الفرح مش حقيقي"... فكادت تفترسني وناشدتني الصمت...فوعدتها أن ألتزم..

وفي مشهد العراك... سيسقط أحدهم من أعلى...احتبست الأنفاس... الكل يخشى لحظة السقوط... أحضرت ورقة وجعلتها قصاصات بعدد الزملاء، كتبت عليها جملة قصيرة، سألت من بجواري أن يوزعها دون إحداث ضجة.. سقط البطل من أعلى.. طلبت منهم قراءة الورقة.. فتحوها فوجدوا.. "هذا دوبلير.. الممثل لم يقفز... الفيلم مش حقيقي"... فقدوا السيطرة على أعصابهم وأقسموا ألا أصحبهم في أي فيلم.
أليس من العجيب أنك تشاهد الفيلم وتعلم مسبقاً أن ما يجري فيه ليس حقيقياً – بداية من أسماء الممثلين وانتهاءً بالأحداث - ثم تتفاعل معه فرحاً وبكاءاً وترقباً وحذراً؟؟!! أليس من المثير أن يقطع انتباهك اتصال هاتفي ثم تعود بعده متسللاً إلى الشاشة الصغيرة مندمجاً مع الممثلين، مغادراً الزمان والمكان؟؟!! أليس من المذهل أنك تشاهد فيلماً قديماً مات كل ممثليه - ولعلك شاهدته من قبل عدة مرات، ثم تندمج معهم وتتألم لأحدهم إذا ضُرب؟؟!! بإمكانك تفسير كل ذلك ببساطة... أنك تريد أن تصدق، فرهنت عقلك طواعية لشخص آخر يتحكم فيه.
كم أرقتني ظاهرة إعارة العقل للغير، فحالة الاستسلام العقلي تتم طواعية، كنت حريصاً أن أُذَكِّرهم أن هذا تمثيل، لا داعي للبكاء، أو للفرح، فكل ما ترونه ليس حقيقياً، وهذا المشهد تم تصويره ما لا يقل عن خمس مرات، والحجرة التي تبدو وكأنها خاوية من البشر تكتظ بأفراد حُرموا من الدخول في كادر اللقطة من مخرجين ومصورين... الخ، المفارقة هنا أن المُشاهد يعرف كل ذلك، لكنه يريد التصديق، بل ويتأذى من أي محاولة تعيده إلى الواقع، ولم يكن مفعول تنبيهاتي أثناء الفيلم ليدوم أكثر من ثوان؛ حتى كانت العقول تستجيب لشهوة الاستسلام.
إنها حالة من تدافع الأفكار داخل العقل، تدافع بين الحقيقة، وبين الفكرة التي يريد أن يختزنها، لتهيمن بعد ذلك على المشاعر وقد تترجم إلى سلوك، إننا كثيراً ما نرى ونفسر الأشياء على غير حقيقتها، لأننا نرغب في رؤيتها بشكل يروقنا، ننتقي من الواقع بعض اللقطات التي تخدم فكرة في أذهاننا، لنُكَوِّن صورة رقمية وهمية تبكينا وتفرحنا وتستنفرنا وتقعدنا، تماماً مثلما أطلقنا على الممثل "بطلاً"، وعلى التمثيل "حدثاً حقيقياً"، وعلى الديكور "أثاثاً"، وعلى المحاليل الحمراء "دماءً".



فإن أرادت مجموعة أن ترى العالم قائماً على الطائفية فستراه كذلك، مهما ذكَّرها الآخرون بأن الواقع أكثر تعقيداً من هذا التبسيط، وأن حقائق الأحداث تختلف عن الفيلم المعروض، وتحتاج إلى تحليل يتجاوز القشور إلى الجوهر، وتتطلب الانتقال من المشاهدة عبر شاشة التلفاز إلى زيارة الأستوديو، ومن المؤكد أن مساعي من يحاولون كشف الخمار العقلي لن تُقَابل بترحاب، نظراً لقابلية العقل للاحتجاب، والرغبة في تكوين صورة رقمية عن الواقع تختلف عن الصورة الحقيقية. نجد نفس النموذج في بعض المؤسسات على تنوع مجالاتها، عندما تُقنع القيادة نفسها بأنها بذلت ما في وسعها وحققت إنجازات، في حين أنها تبذل جهداً في القفز في المكان، وكثيراً ما تتأذى الأغلبية المغيبة في هذه المؤسسات من محاولات التنبيه التي تقوم بها الأقلية اليقظة، ولا تتورع عن تصنيفهم كمجرمين... تهمتهم إفساد متعة مشاهدة الوهم.
آن لنا أن نتحكم في عقولنا، ونأبى تسليمها لأسر فكرة أو شخص، وأن نخوض معركة تحرير العقول لنعلن استقلالها، ونرفع عليها أعلام التجديد. ويتطلب هذا أمرين أساسيين:
أولاً: معرفة بهذا الداء... داء إعارة العقل للغير، وقابلية الإصابة به.
ثانياً: تحديث المدخلات المعرفية بشكل متجدد، ليتم تناول القضية الواحدة من كل الزوايا المطروحة، ويعاد رسم صورة عن الواقع والذات والآخر بشكل دوري.
إن العقل الحر لا يستنكف أن يغير فكرته إن شعر بسيطرة فكرة وهمية عليه، ويرفض بدوره تلقين الآخرين فكرته، أو توريثها لجيل لاحق دون دعوتهم لتمحيصها ووضعها في معمل النقد ليتم تحليلها بشكل دقيق، فهو لا يدعو مَن بَعده للاستمرار على فكرته، بل يدفعهم ليراجعوها من جذورها لعله عجز عن إبصار أجزاء من الحقيقة، إنه يعزف أعذب ألحان القرن الجديد، لتطرب جنبات الدنيا بهذا الصوت الهادر.. "علموا الجيل طريق الاستقلال، ولا تقيدوا عقولهم بأغلال أفكاركم، ولا تبيعوهم أفلام أوهامكم ليشاهدوها على اعتبارها حقائق. دربوهم على عشق الفن...فن البحث عن الحقيقة."
----------------------------------------
نشرت في الجزيرة توك