ثورة الأفكار

الأحد، أغسطس ٢٠، ٢٠٠٦

الصورة مقطوعة!

الصورة مقطوعة!

أيها النقاد..أعيروني أعينكم
21/8/2006
كنا بصدد تأسيس مشروع، حددنا فكرته، وأجبنا على بعض الأسئلة الأولية.. دعوت الفريق لزيارة شخص نطرح عليه الفكرة، سألوني إن كنت أتوقع مساعدته، أجبتهم بالإيجاب -رغم علمي أنه سيعارض الفكرة بقوة.. ذهبنا إليه.. طرح عليهم أسئلة صعبة.. خرجوا مستائين، فقد دمر لهم الفكرة.. قلت لهم: "ألا تنتبهون؟؟!!..الصورة مقطوعة".
يتحدث الكثيرون عن النقد البناء والهدام، ويرون أن الأول محمود والآخر مذموم، ولا أرجح هذا التصنيف، فالنقد قد يصنف إلى نقد موضوعي وغير موضوعي، وليس ذلك فحسب، بل بين الموضوعية واللاموضوعية عشرات الدرجات، فربما تختلط الموضوعية مع اللاموضوعية، وقد تتسم نقاط بموضوعية تامة، وأخرى بلاموضوعية. لذلك فحتى هذه الدرجات نسبية يصعب حسم القول فيها.
ويصعب تصنيف النقد إلى هدام وبناء، لأنه – في رأيي- لا يهدم ولا يبني مشاريعاً، أو يقتل أو يطور فكرة، فعملية الهدم والبناء مرتبطة بالشخص أو المجموعة حاملة الفكرة الموضوعة على منصة النقد، فقد يمتليء النقد بآراء قيمة تبني، لكن المجموعة المتلقية له تكون متعصبة متحجرة الفكر، فحينها تهدم مشروعها بتجاهل النقد، مستمرة في إعادة إنتاج أفكارها القديمة، وقد يكون النقد لاذعاً فينعته البعض بال"هدام"، لكنه يصادف عقولاً تتمتع بالحيوية، فتلتقط من ثنايا صواعق النقد ما تعيد به بناء وتشكيل أفكارها.
لذلك أرى أن قضية الهدم والبناء مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بحامل الفكرة، وليس بالناقد أو النقد ذاته، وكم من ذكي استفاد من نقد عدوه، بل وسعى إلى الاستماع إليه رغم يقينه أنه لن يوجه بالضرورة نقداً هادئاً عذباً، وأن خصمه لا يسعى إلى بنائه وتطويره، لكنه يدرك أنه سيضيف له زاوية نظر دقيقة جداً، غالباً ما يتعامي العقل عن إبصارها. إذن قد يتعمد خصمك نقدك لهدم فكرتك، لكنه يمنحك مواد البناء دون أن يدري.
إن النقد يمثل زوايا النظر المختلفة للمشهد الواحد، ويضيف عقولاً جديدة إلى عقلك كي تفكر، وعيوناً تزيد عينيك قوة في الإبصار كي ترى. والعاقل لا يلتفت إلى شخصية الناقد وأسلوبه، وخلفيته التاريخية، ومدى قربه أو بعده عن فكرته، أو نعته بالبناء أو الهدام، مدركاً أن عملية الهدم والبناء في يده هو، كما أنه لا يضع شروطاً للناقد، كأن يتأدب ويتلطف، أو يزين كلماته – وإن كان ذلك أدعى لقبول الرأي، أو يكون من داخل فريق العمل حتى يحق له إبداء الرأي، إلى آخر ذلك من معوقات قبول النقد.
كم أعجبني مطاردو الأفكار أينما كانت، فيذهب فريق عمل بمشروعه ليعرضه على من يُعتقد أنه سينتقد فكرته بقوة، فيستفيد من أسئلة الناقد الحرجة، ولعل أعضاء الفريق لا يملكون أجوبة كافية، لكنهم يختبرون صلابة الفكرة من خلال تلك الأسئلة، فيضعون أيديهم على مواطن قصورها، ومن ثم يبدأون في تشذيبها وتوفير الأجوبة على الأسئلة المطروحة عليها، إنهم لا يطلبون من الناقد "المشاكس" أن يشاركهم في التنفيذ، بل استفادوا منه في أعمق من ذلك، في بناء الفكرة وتطويرها، وقد يستعذبون وضع أفكارهم تحت المطارق لتزداد حدة، فيخصصون لمشروعهم كتيبة من النقاد، تُعرض عليها الأفكار، لسان حالهم "أيها النقاد.. أعيرونا أعينكم". وليس ذلك فحسب؛ بل ويفردون ملفاً لتسجيل أخطائهم، ولا يخجلون من توثيقها، لتكون في أرشيف ملفات المشروع، ويستفيد منها من يليهم.
وعلى النقيض هناك من يتهيبون النقد، ويبنون بينهم وبينه أسواراً عالية، ولايدونون أخطاءهم، ويدافعون عن كل تاريخهم، متخذين من النقد عدواً، وينظرون إلى طارحه بقلق، مفتشين عن بطاقة هويته، ظانين أنهم بذلك يحمون فكرتهم، وما دروا أنهم يخنقونها، ويسدون عليها منافذ الهواء، ثم يتحلقون حولها صارخين.. تنفسي.
على كل صاحب فكرة أن يدرك أنه يمسك صورة مقطوعة، ودوره أن يتقن هواية تركيب الصور، فيدرك أنه يمتلك قصاصة من الصورة، وأن بقية القصاصات مع آخرين، وأنه يحتاج استجماع كل القصاصات كي يبصر الصورة، بعض هذه القصاصات مع أفراد فريقه، وبعضها مع المتحاملين، وبعضها مع الأعداء، وقد يستعيد قصاصة بكلمة طيبة، وأخرى بكلمة لاذعة من حامل القصاصة، عليه أن يدرك أن لكل قصاصة سعراً، وأن واجبه استعادتها جميعاً، وأن يوقن أن فتح بوابات العقل لمرور مواكب النقد – بدون قيد – يضمن استجماع كل قصاصات الصورة.
الطريف أن البعض يبذل الجهد في جمع القصاصات، فيستمع لكل الآراء، لا ليركب الصورة، بل ليحرق تلك القصاصات، ويبقي قصاصته التي بين يديه، ثم يقنع من معه أنه استمع لكل الآراء وتأكد من صحة ما يقوم به.

---------------
نشرت في الجزيرة توك