ثورة الأفكار

الجمعة، ديسمبر ٠٨، ٢٠٠٦

إلى الواقفين في الطابور

إلى الواقفين في الطابور

ثمة خيارات أخرى


بينما أنا ذاهب لأشتري تذكرة ركوب مترو الأنفاق؛ إذ بي أفاجأ بطابور طويل، وكلما أتى فرد لشراء التذاكر ينظر مندهشاً لطوله ثم يقف تلقائياً فيه، بالرغم من وجود شباكين آخرين لشراء التذاكر لا يقف أمامهما أحد، كأن الجميع يقول في نفسه: "بالتأكيد لا تصرف تذاكر من هناك... إذا كانت تصرف لما كان كل هؤلاء مصطفين بهذه الطريقة في طابور واحد".
ذهبت إلى أحد الشبابيك الخاوية من البشر، فوجدت الموظف يبيعني التذكرة، فإذا بالسيل المنهمر يخرج من الطابور الطويل - لما رأى التذكرة في يدي - ليأتي على الشباك الذي وقفت عنده. فقد أدركوا أن البيع متاح في الشبابيك الأخرى.
ولعل الناس تحب الأماكن التي اكتشفت من قبل، وتحب أن تأنس بالكم البشري، على اعتبار استحالة أن تكون كل هذه الجموع على خطأ، وحتى إن كانوا مخطئين، فلا بأس من قبول وحدة المصير.
أما قادة التحولات فيتميزون بأنهم لا يقفون في ساحة مزدحمة، لأنهم لن يضيفوا عليها إلا أشخاصاً آخرين يأنسون بالزحام، لذلك نجدهم يبحثون عن الفرص الكامنة في الطرق غير المكتشفة، ويرون أن من سار خلف الناس لن يصل إلى أبعد مما وصل إليه الناس، فيأنسون بالوحدة، ويتصفون بالتفرد، وهم الذين يصنعون النقلات النوعية، خاصة عندما يحررون عقول الناس، ويقنعونهم أن هناك طرقاً أخرى يمكن السير فيها.
أيقنت أن الكثير من معطلات تقدمنا ليست إلا نتاج عقولنا، وأنماط تفكيرنا، ورغبتنا في الوقوف في الأماكن المزدحمة، والتهيب من اكتشاف السبل الجديدة.
إن المنطق يقول أنك إما أن تظل أسير تجارب الماضي، وتابعاً لمحاولة من سبقك، وتقف بدورك في طابور طويل، أو تجرب اكتشاف سبيل جديد ربما يقود إلى حلول، فإن أخفقت في اكتشاف السبيل، فالطابور موجود، وهو خيار قائم، وربما يصل الواقفون فيه إلى مبتغاهم ببطء، وإن نجحت ساهمت في إيجاد مسار جديد يسهل الحركة ويختصر الزمن.
إن المجتمعات التي تسعى للنهوض تبذل جهدها في تلمس الطرق، ويبدع قادتها في إيجاد البدائل، وهم المعنيون بأن يحلوا أزمة الحركة البطيئة في عصر السرعة، فتتسارع وتتوالى المبادرات التي ربما قادت إلى حل، فنرى مجتمعات حية تأنف الاستسلام وتعشق المحاولة، أما ما يدهش فعلاً في مجتمعات أخرى، مراقبة قادتها للطابور الطويل، بل وتنظيمه، ثم معاقبة من تسول له نفسه الخروج منه لاكتشاف المستقبل والبحث عن مخرج.

الجمعة، ديسمبر ٠١، ٢٠٠٦

الطريــق طويـــــــــــــل

الطريــق طويـــــــــــــل

طريق طويل... أم نفس قصير؟؟!!


عندما كنت أسبح في طفولتي، كان الإعياء يصيبني قبل أن أصل إلى نهاية حمام السباحة، وأشعر أن المسافة التي أقطعها طويــــــــلة، لكنني عندما كبرت صرت أقطع المسافة بسهولة ذهاباً وإياباً.وعندما كنا نلعب في فناء المدرسة، كنا نقيم مسابقات العدو بشكل مستمر، وكم اختبأنا وراء الأشجار، ثم كبرت وزرت مدرستي، فتعجبت من صغر فنائها، وضآلة أشجارها، وخُيل إلي أنه من المستحيل أن نكون عدونا ولعبنا فيها واختبأنا وراء تلك الأشجار يوماً من الأيام.
وعندما نرى أمة تحاول أن تقطع أشواطاً على طريق تقدمها، ثم ينهكها التعب، ويتسلل إليها الإحباط متستراً بمقولة "الطريق طويــــــل.. وحسبنا أن نقطع فيه خطوة". فإن هذه القضية تحتاج إلى وقفة، فهل فعلاً الطريق طويــل؟!إذا كان هناك طريق طوله 20 كيلو متراًٍ، هل يعتبر طويلاً أم قصيراً؟؟!! إذا كنت تقطعه بسيارة بسرعة مائة كيلو متر في الساعة فسيستغرق الوقت 12 دقيقة، أما إذا قطع سيراً على الأقدام فربما يستغرق ما يزيد على الساعتين، بالإضافة إلى الإجهاد. فكيف نحدد إذا كان الطريق طويلاً أم قصيراً؟؟ وهل الطول والقصر نسبي بحسب وسيلة العبور؟؟!!
أرى أننا نسير في طرق محددة المسافة، إلا أن عقولنا تبرر لنا أحياناً عدم المسير، فترينا إياها طويلة، فطريق التحول سلكته أمم في قرون مثل الفرنسيين قبل أن يطلقوا ثورتهم، وسلكته أمم أخرى في عقود مثل الصين رغم تشبث التحديات بها. وكلا الدولتين صنعتا نهضة، فأي الطريقين نسلك؟؟ طريق القرون أم طريق العقود؟؟وفي الوقت الذي نرى فيه أحزاباً ألمانية قديمة تحاول أن تقطع الطريق الطويــل، نجد هتلر[i] – رغم أنه نمساوي وليس ألمانياً -يلتحق بعدهم بنفس الطريق قادماً من النمسا، لكنه يصل قبلهم ليطبق برنامجه، بعد أن تمَلكه حلم ألمانيا القوية.
إننا إذا استوعبنا ذلك جيداً أدركنا أن الطول والقصر هو أمر نسبي، بحسب عقل الناظر، وحالته النفسية، فإذا سرنا في الطريق بعقلية ونفسية وطاقة الأطفال، فسنجد المسافة طويلة وأنفاسنا قصيرة، وستعيقنا بحار الأخطار العميقة عن التنفس وتغمرنا إلى أذننا، وستعجز أعيننا عن رؤية المشهد الواسع الممتد من كل زواياه، أما إذا سرنا في نفس الطريق بعقل استراتيجي، يستمد قوته من قوة العلم، وبرغبة حقيقية في قطع الطريق، ونفس طويل يهزأ بالمسافة، فحتماً سنراه قصيراً، ليس لأن المسافة قصرت، ولكن لأننا نعدو سريعاً، وإذا أطللنا على مشهد التحولات فسنرى الأوضاع مختلفة، ليس لأن تعقيد المشهد واتساع أبعاده تغير، وإنما لأننا صرنا أطول قامة وأحد بصراً فتمكننا من رؤيته بوضوح.إن ترديد مقولة "الطريق طويــــــــل" أشبه بمسكن أو مخدر يسبب مناعة ضد الفعل، خاصة إذا تم توريثها على اعتبارها مسلمة من مسلمات التحول، وأغنية تدندن بها الأجيال، وحكايات تغذى بها عقول الأطفال، فلا تتطور الأفكار لأن الطريق طويــــل، ولا تتغير الاستراتيجيات لأن الطريق طويـــل، ولا تُقدح الأذهان للبحث عن بدائل تعيننا على التسلل إلى المستقبل المنشود لأن الطريق طويــل، ويجب أن لا نتطلع إلى نصر أو نستعجله الآن، وبالطبع لأن الطريق طويـــل.
إن نهايات الطرق لا تزحف إلى السائرين ببطء، وإنما يعدو نحوها العداءون، الذين يوقنون أنهم في سباق، وأن الزمن لن ينتظرهم، فثمة متسابقون آخرون على الطريق.
أليس من العجيب أن العلماء الذين فكروا في الصعود إلى القمر لم يروا المسافة بعيدة؟! كان من الممكن أن يقولوا كيف نقطع هذا الطريق الطويــل بالسيارة أو الطائرة، لقد اخترعوا الآلة التي تقلهم إلى مبتغاهم، لأنهم قرروا في داخل أنفسهم أن الطريق يمكن قطعه، وأنهم حتماً سيصلون، واليوم صار الذهاب إلى القمر وإلقاء نظرات على المريخ هواية يمارسها رواد الفضاء المغمورون، لقد عُبد الطريق، لأن مجموعة تجرأت عليه، وأيقنت بإمكانية الفعل.
بعض الناس يتخيلون أن المشكلة في الطريق، وهؤلاء لن يرونه إلا طويـلاً، والبعض الآخر يدرك أن المشكلة في عقله ونمط تفكيره وحجم استعداداته، والطريقة التي اختارها للسير فيه، وهؤلاء وإن أخفقوا اليوم فغداً سيقطعونه، ويوماً ما سيراهم الآخرون يطئون بأقدامهم خط النهاية.

---------------------------

[i] تم استدعاء نموذج هتلر كمثال للإصرار والتحدي، وهذا لا يعني بالضرورة الاتفاق مع الأفكار والبرنامج والممارسات السياسية التي مارسها، لكن من المثير أن حامل الجنسية النمساوية يحلم أن يحكم ألمانيا، ثم يحكمها ويحصل على الجنسية الألمانية