بلطجية الفكر
26/7/2006
وفي تقديري أن "ثقافة البلطجة" إفراز طبيعي لنمط تفكير يطغى في مجتمع من المجتمعات، حين لا توجد سوى وسيلة واحدة للحوار... أن تسمعني.. وهذا النمط يكرسه الأب في بيته، والمدرس في فصله، والمدير في مؤسسته... الخ، لذلك نجد بلطجية الفكر في كل مكان، في المؤسسات السياسية والاجتماعية والثقافية ..الخ، ويستخدمون أبشع الأسلحة المحرمة إنسانياً، ليغتالوا العقول، تارة برصاصة تتناول شخص طارح الفكرة ومكانته ومدى جدارته بالحديث، وأحياناً تخترق الرصاصة قلبه مفتشة عن نواياه، وحينها تطغى مناقشة هوية الأشخاص على تمحيص الأفكار، وتارة يحمل بلطجي الفكر في نفسه بقايا إنسان، فيكتفي بدبوس يشك به طارح الفكرة قبل أن يستكمل طرحها قائلاً له: "ستبحث المستويات العليا هذه الفكرة...والآن..لننتقل إلى النقطة التالية"، أو آخر يتميز بالرقة فيهمس في أذن من بجواره: "إنه يفكر كثيراً...سيتعبنا".. وأحياناً تستعد المؤسسات بكتيبة الردع الفكري للوقاية ممن أطلقت عليهم "مشاغبو الفكر"، فتسأل قبل أن تضم فرداً جديداً إلى فريقها: "هل يفكر كثيراً؟؟"..
أما كبار البلطجية فلا يكترثون بالأسلحة السابقة؛ بل يطلقون قذائف فتاكة من عيونهم، تتجسد في نظرات ازدراء أو توعد أو استنكار، لتقتل فكرة مطروحة قبل تمحيصها، بعد أن تكون شظايا القذائف أصابت طارحها بالشلل العقلي.

وهناك العرافون، الذين يعلمون شيئاً من الغيب، ويقرأون الفنجان، ترى أحدهم يقول لمحدثه قبل أن يشرح فكرته ويوضحها: "لا تكمل ..أفهمك...أعرف ما الذي ستقوله"..
ووأد الأفكار لا يقتصر على شريحة القيادة، فقد لاحظت وجود أفراد في بعض المؤسسات - ليسوا في مركز القيادة - ويروجون لنفس الأسلوب، خلتهم في بداية الأمر "بلطجية تحت التمرين"، لكنني وجدتهم يمارسون الإجهاض الفكري بجدية، ويتطوعون بالرد نيابة عن مديريهم بنفس الأسلوب، حينها علمت أنها ثقافة تُوَرَّث، وعبارات واحدة تردد لإجهاض جنين الفكرة..مثل: "هل جربها أحد من قبل؟؟"، "دعنا نعمل بالطريقة التي نعرفها"، "لو كانت صالحة لنفذتها الإدارة من فترة"، "لدينا إدارة واعية.. ركز فقط في إنهاء عملك"، "هل تعتقد أنك أعلم من الإدارة بهذه النقطة؟؟!!".
والمؤسسات بصفة عامة لا تحارب كل الأفكار، فأي فكرة جديدة ترسخ الوضع القائم ستحظى بالتكريم، أما الأفكار التي يحكم عليها بإلإعدام، فهي التي تتناول مسار المؤسسة من أساسه، وجدوى وجودها، واستراتيجيات تحركها، ومدى إنجازها، ومعايير وآليات تولي القيادة.
إن أي مجتمع يصير فيه التفكير جريمة فهو على خطر، وأي وسط تُطارَد فيه الفكرة سيفتقد حتماً مقومات الحياة، فالأفكار أكسوجين التنفس الذي ينعش رئة أي مجتمع ليكون قادراً على التطور، وتموت الأمم حضارياً إذا أصيبت بأزمة التعامل مع العقول، واعتبرتها عدواً.
وقد انتبهت بعض المؤسسات في عالمنا العربي إلى خطورة القطيعة مع العقل، وقررت أن تبدأ المصالحة معه، واستبدلت رعاة الفكر ببلطجية الفكر، مدركة أنها لن تتطور إلا إذا سادت فيها ثقافة احترام الإنسان، وتقدير عقله، وعلمت أنه رأس مالها فترعاه وتستثمر فيه وتشجعه على أن يدعمها، لا أن تعتقل ملكاته، ورأت فيه مصدر تميزها، لا تهديد وجودها واستقرارها.
اختارت كثير من المؤسسات لصفارات الإنذار صوتاً مدوياً .. "احترس....تسلل إلينا عقل" ...وفي ناحية أخرى نرى مؤسسات واعدة تسعى لتقديم النموذج، مؤمنة أن أمتنا ستبرع وتنافس في السباق الحضاري يوم أن ترن صفارات الإنذار في مؤسساتها.. "احترس....سيتفلت عقل".






ندائي للشباب أن يتبوءوا مقاعدهم، ويوقنوا أنهم الأقدر على صناعة تجربة جديدة، آن لهم أن يسمعوا العالم صوتهم، فتجثو البشرية تواضعاً لأفكارهم، وتُطرق الرأس إنصاتاً لبيانهم، مصغية إلى هذا الصوت العنيد، وذلك النبض الفريد. أهتف من أعماق الفؤاد... لا تنتظروا وصاية، ولا تستصغروا أنفسكم، بل اصرخوا ملء أفواهكم.. "سنصنع التاريخ"..
كنت أدون بعض الملاحظات حول أسباب نهوض الأمم...أتحدث مع كتبي ودراساتي.. وأسأل عظماء التاريخ عن أحلام صاغوها واقعاً...أطللت من النافذة لأختلس شيئاً من الراحة... تعجبت!! الشوارع مجدبة من المارة..!! تذكرت.. فثمة مبارة كرة قدم احتشد لها الناس. وبينما أنا مستغرق في القراءة والتدوين؛ إذا بصرخة ترج المدينة ... (جووول) ...كان صوتاً مدوياً أعلنته الجماهير في الاستاد، والمشاهدون في البيوت والمقاهي والنوادي وفي كل مكان، هتاف واحد....في وقت واحد ...وكلمة واحدة...جووول.
وجدت أن محاولة استبدال الثلاث خشبات بأشياء أخرى لجذب المشجعين أمر عديم الفائدة، فاستعراض المهارات في الملعب يسعد الجمهور، لكنه لا يخدعه، لأن السؤال الأساسي بعد انتهاء المباراة "من الفائز؟؟"
انطلق السائق يشق الشوارع، وبدأ الناس يخرجون من الشقوق ليركبوا معه… اكتمل عدد الركاب، واستمر شحن الميكروباص بالبشر… سألت السائق أن يكتفي بعدد قليل من الواقفين لأن الطريق طويل، فنظر إلىَّ في مرآته الأمامية نظرة ازدراء، بعد أن عانقت شفته العليا أنفه. بدأت الأعداد تتزايد.... أصبح حذائي هو الممر المفضل للركاب.. وجوههم تتدلى عليَّ في مشهد عجيب ... تحليت بالصبر الجميل... بدأت أنزف عرقاً... يتشاجر البعض نتيجة التكدس... يرتفع السباب... يبكى الطفل الرضيع... وبدأت رحلة الأحلام تسوق إليَّ نبأ احتضارها...


